انتصار أردوغان- تجديد للديمقراطية التركية وفرحة في العالم الإسلامي

مع إسدال الستار على الانتخابات الرئاسية مساء الأحد الموافق 28 مايو/أيار 2023، تكون التجربة الديمقراطية التركية قد خطت منعطفًا جديدًا في مسيرتها التاريخية، مظهرةً مستوى رفيعًا من النضج السياسي. فمرةً أخرى، وبنسبة مشاركة فاقت 85%، برهن الشعب التركي على أنه اللاعب الأهم في الساحة السياسية، وذلك من خلال تفاعله ومشاركته النشطة التي قلّ نظيرها على مستوى العالم.
جرى إحصاء الأصوات التي أدلى بها ما يقارب 55 مليون مواطن في غضون ثلاث ساعات فقط من إغلاق صناديق الاقتراع، وقد نُشرت النتائج على النظام الإلكتروني بشفافية كاملة أمام أنظار العالم أجمع، وبحضور جميع الأطراف المعنية وتحت إشراف رقابة دولية صارمة، الأمر الذي يجعل الطعن في نزاهة هذه الانتخابات أمرًا في غاية الصعوبة.
إنها بحق صورة تبعث على الإعجاب والفخر بالديمقراطية التركية، فالرئيس أردوغان – الذي يصفه البعض بالديكتاتور – لم يتمكن من حصد النصاب الكافي للفوز من الجولة الأولى، بفارق ضئيل لم يتجاوز 0.5%، ليواصل بعدها لمدة أسبوعين متتاليين عرض برنامجه الانتخابي على الجماهير سعيًا منه لزيادة نسبة التصويت له عبر الوسائل الديمقراطية في الجولة الثانية من الاقتراع.
وقد أحسن أحد كتاب النيوزويك الأميركية وصف هذا المشهد، حينما قال إنه لا يوجد ديكتاتور في العالم يضطر إلى فعل ذلك. فالديكتاتوريون لا يخوضون جولة تصويت ثانية، ولا يكترثون بنتائج الانتخابات، ولا يضعونك في حالة ترقب وانتظار للنتائج، فهي بالنسبة لهم محددة سلفًا. لكن ها هو العالم بأسره يعيش حالة الترقب ليلة أمس، منذ لحظة فتح لجان الاقتراع في الصباح الباكر وحتى انتهاء فرز البطاقة الأخيرة، ومع ذلك، واعتبارًا من يوم أمس، كانت تركيا بأكملها والعالم أجمع ينتظرون نتائج الانتخابات بلهفة وقلق بالغين خشية أن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، إلى أن تم فرز آخر بطاقة تصويت.
وفي نهاية المطاف، انتصر أردوغان. أو بالأحرى، انتصر مرة أخرى. فهو لم يذق طعم الهزيمة قط في صناديق الاقتراع، ولم يصمد أحد في منافسته، حتى عندما اجتمع خصومه على طاولة الستة (أو السبعة أو الثمانية) وتحالفوا على مواجهته، فقد استطاع أن يهزم هذا التحالف الذي جمع كل العناصر السياسية والمعادية للسياسة الوطنية والدولية والقانونية وغير القانونية في "نهائي أسطوري".
هذا الانتصار يذكرنا بنجاحه المدوي عام 2002، عندما استطاع حزبه الذي لم يُمنح أبدًا فرصة حقيقية وكان محظورًا سياسيًا، أن يطيح بجميع الأحزاب الأخرى خارج العتبة الانتخابية التي تتيح لهم دخول البرلمان، محققًا أغلبية ساحقة لم يشهدها البرلمان التركي منذ سنوات طويلة. لكل انتخابات حكاية، وسياق مختلف، إلا أن أردوغان كان دائمًا هو الفائز.
كاتب أميركي وصف المشهد بشكل جيد قائلا إن الدكتاتوريون لا يدخلون جولة تصويت ثانية، ولا يقلقون بشأن نتائج الانتخابات، ولا يجعلونك تترقب النتائج فهي محددة سلفا
ابتهاج عارم في العالم الإسلامي
في خطاباته خلال الحملة الانتخابية، كان أردوغان يؤكد مرارًا وتكرارًا أن فوزه لن يكون هزيمة للآخرين، ولم يكن هذا مجرد شعار دعائي، فانتصاراته لطالما كانت انتصارات لتركيا بأكملها وللعالم الإسلامي قاطبة وللمظلومين في كل مكان.
ولتأكيد أن ما أقوله ليس ضربًا من المبالغة، اسمحوا لي أن أتحدث عن واقعة أعيشها الآن: فمنذ الساعة 19:00، عندما بدأت في كتابة مقالي هذا، لم تتوقف مكالمات التهنئة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. فقد تلقيت اتصالات من مهنئين من اليمن وتونس والعراق والمملكة العربية السعودية وقطر والكويت ومصر والسودان وباكستان وأفغانستان وجزر المالديف والجزائر والمغرب وموريتانيا وليبيا وسوريا وفلسطين وصربيا والبوسنة وإريتريا ولبنان، يعبّرون جميعًا عن فرحتهم الغامرة بعاطفة جياشة لا توصف، شاكرين الله عز وجل.
على مدار أسبوعين كاملين، كانت مجموعات من هذه البلدان تحشد قواها لإقامة صلاة التهجد كل ليلة ابتهالًا إلى الله عز وجل بأن يوفق أردوغان في الانتخابات. هؤلاء الأشخاص، الذين يشعرون بأن مصيرهم مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمصير أردوغان وتركيا، يشاركون الآن بهواتفهم في كتابة مقالي، حيث أتلقى مكالمتين على الأقل خلال كل جملة أكتبها بشكل لائق إلى حد ما.
في خطبه خلال الحملة، كرر أردوغان أن نصره لن يكون هزيمة للآخرين، ولم يكن هذا مجرد خطاب دعائي، فلطالما كانت انتصاراته نصرا لتركيا كلها وللعالم الإسلامي بأسره وللمضطهدين
إن أردوغان بحق قائد فذ ومحنك. ففي الدراسات الاجتماعية التي أجريتها حول القيادة في الماضي، توصلت إلى قناعة راسخة بأن القائد القوي هو أحد أقوى دعائم رأس المال الاجتماعي لأي بلد. وقد جنت تركيا فوائد جمة من خلال إعادة انتخاب زعيم مخضرم وموثوق به مثل أردوغان، الذي حقق نجاحات باهرة لبلاده على مدى 21 عامًا حافلة بالإنجازات. إن القيمة المضافة التي تجلبها قيادة مثل أردوغان إلى البلاد لهي قيمة عظيمة بلا شك، خاصة في ظل البيئة العالمية الراهنة التي تعاني فيها دول العالم أجمع من نقص حاد ومزمن في القيادات القوية، وقد قدر الشعب التركي هذه القيمة حق قدرها.
معارضو أردوغان لم يمنى بالخسران
بانتصار أردوغان، فازت كافة أطياف المجتمع التركي، مثلما كان الحال دائمًا. وقد تناولنا هذه المسألة بتفصيل أوفى في مقالنا الأخير. فلطالما استفاد الأكراد والعلويون والفئات المهمشة من المجتمع، والغجر، وذوو الاحتياجات الخاصة، والفقراء، والمظلومون، وكل من يحملون توجهات سياسية أخرى، استفادوا جميعًا من الخدمات العامة الجليلة التي تقدمها سياسات أردوغان. لا يوجد أحد لم ينتفع بذلك منذ 21 عامًا، وهذا أمر جلي وواضح للعيان.
لم يقدم أردوغان وعودًا من نوع آخر في هذه الانتخابات، وعلى الرغم من عدم قدرة البعض على تقبل هذا الواقع واستهدافه ومؤيديه بخطاب الكراهية، فقد فتح ذراعيه للجميع دون تمييز أو تفرقة، وسيظل على الدوام يفتحها.
لقد فازت تركيا بإثبات ديمقراطيتها للعالم أجمع، من خلال تقديم هذا النموذج الرائع والمبهر. فبين جولتي نتائج الانتخابات، وصل كل صوت تقريبًا إلى صاحبه بدقّة متناهية. وكانت معدلات المشاركة في الجولتين متقاربة جدًا، ومقارنة النتائج بينهما لا تُظهر توزيعًا عشوائيًا للأصوات، بل تكشف عن دقة بالغة. وبعبارة أخرى، يوضح هذا مدى إصرار الناخبين ووعيهم التام بما يريدونه، كما يبرز مدى نزاهة وشفافية نظام فرز الأصوات.
فعلى سبيل المثال، حدث تحول ملحوظ في التصويت بين الأكراد، ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح. ففي الجولة الأولى، شعر بعضهم بتهديد حقيقي، خاصة في المناطق الريفية، من احتمال فوز كليجدار أوغلو، وعندما اتضح أنه لم يكن قريبًا من الفوز كما كان يُعتقد، شعر قطاع كبير من المصوتين الأكراد بالتحرر من هذا التهديد وقاموا بتغيير اختيارهم في الجولة الثانية. وقد لعب عدد لا يستهان به من هذه الأصوات دورًا حاسمًا في تشكيل النتيجة بصورتها النهائية.
بطبيعة الحال، ستخضع هذه النتائج لمزيد من التحليل المعمق لإرساء رؤية جديدة عن تركيا وتوجهاتها السياسية المستقبلية.
وفي الختام، انتصر أردوغان، ففازت معه تركيا بكل أطيافها وألوانها، بمن شارك في التصويت ومن لم يشارك، وإلى جانب هؤلاء جميعًا، انتصر كل المظلومين والمقهورين في هذا العالم الفسيح.
نصر مبارك للجميع.